فصل: تفسير الآيات (108- 110):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (102- 103):

{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)}
{أَفَحَسِبَ الذين كَفَرُواْ} أي كفروا بي كما يُعرب عنه قوله تعالى: {عِبَادِى} والحُسبان بمعنى الظن وقد قرئ: {أفظنّ} والهمزةُ للإنكار والتوبيخِ على معنى إنكارِ الواقعِ واستقباحِه، كما في قولك: أضربتَ أباك؟ لا إنكارِ الوقوعِ، كما في قوله: أأضرِب أبي؟ والفاء للعطف على مقدر يُفصح عنه الصلةُ على توجيه الإنكارِ والتوبيخِ إلى المعطوفَين جميعاً كما إذا قُدّر المعطوفُ عليه في قوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} منفياً أي لا تسمعون فلا تعقلون لا إلى المعطوف فقط كما إذا قُدّر مُثْبتاً أي أتسمعون فلا تعقلون، والمعنى أكفروا بي مع جلالة شأني فحسِبوا {أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِى} من الملائكة وعيسى وعُزيرٍ عليهم السلام وهم تحت سلطاني وملكوتي {أَوْلِيَاء} معبودين ينصُرونهم من بأسي، وما قيل إنها للعطف على ما قبلها من قوله تعالى: {كَانَتْ} إلخ {وَكَانُواْ} إلخ دَلالةً على أن الحُسبانَ ناشىءٌ من التعامي والتصامِّ وأُدخل عليها همزةُ الإنكار ذماً على ذم وقطعاً له عن المعطوف عليهما لفظاً لا معنى للإيذان بالاستقلال المؤكّدِ للذم يأباه تركُ الإضمار والتعرضُ لوصف آخرَ غيرِ التعامي والتصامِّ على أنهما أُخرجا مُخرَجَ الأحوال الجِبِلّية لهم، ولم يذكروا من حيث إنهما من أفعالهم الاختيارية الحادثة كحُسبانهم ليحسُن تفريعُه عليهما، وأيضاً فإنه دينٌ قديمٌ لا يمكن جعلُه ناشئاً عن تصامّهم عن كلام الله عز وجل، وتخصيصُ الإنكار بحُسبانهم المتأخرِ عن ذلك تعسّفٌ لا يخفى، وما في حيز صلةِ أن سادٌّ مسدَّ مفعولَيْ حسِب كما في قوله تعالى: {وَحَسِبُواْ أَن لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي أفحسبوا أنهم يتخذونهم أولياءَ على معنى أن ذلك ليس من الاتخاذ في شيء لِما أنه إنما يكون من الجانبين، وهم عليهم الصلاة والسلام منزَّهون عن وَلايتهم بالمرة لقولهم: {سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ} وقيل: مفعولُه الثاني محذوفٌ أي أفحسبوا اتخاذَهم نافعاً لهم، والوجهُ هو الأولُ لأن في هذا تسليماً لنفس الاتخاذِ واعتداداً به في الجملة، وقرئ: {أفحَسْبُ الذين كفروا} أي أفحسبُهم وكافيهم أن يتخذوهم أولياءَ على الابتداء والخبرِ، أو الفعلِ والفاعل فإن النعتَ إذا اعتمد الهمزةَ ساوى الفعلَ في العمل، فالهمزة حينئذ بمعنى إنكار الوقوع {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ} أي هيأناها {للكافرين} المعهودين، عدلَ عن الإضمار ذمًّا لهم وإشعاراً بأن ذلك الاعتادَ بسبب كفرهم المتضمّنِ لحسبانهم الباطل {نُزُلاً} أي شيئاً يتمتعون به عند ورودِهم وهو ما يقام للنزيل أي الضيفِ مما حضر من الطعامِ، وفيه تخطئةٌ لهم في حسبانهم وتهكّمٌ بهم حيث كان اتخاذُهم إياهم أولياءَ من قبيل إعتاد العتادِ وإعدادِ الزاد ليوم المعاد، فكأنه قيل: إنا أعتدنا لهم مكان ما أعدّوا لأنفسهم من العُدة والذُّخْر جهنمَّ عُدّةً. وفي إيراد النُزُل إيماءٌ إلى أن لهم وراءَ جهنمَ من العذاب ما هو أنموذجٌ له، وقيل: النزلُ موضعُ النزول، ولذلك فسره ابن عباس رضي الله عنهما بالمثوى.
{قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم} الخطابُ الثاني للكفرة على وجه التوبيخِ والجمعُ في صيغة المتكلم لتعيينه من أول الأمر وللإيذان بمعلومية النبأ للمؤمنين أيضاً {بالأخسرين أعمالا} نصبٌ على التمييز والجمعُ للإيذان بتنوعها، وهذا بيانٌ لحال الكفرة باعتبار ما صدَر عنهم من الأعمال الحسَنةِ في أنفسها وفي حُسبانهم أيضاً حيث كانوا معجَبين بها واثقين بنيل ثوابِها ومشاهدةِ آثارِها غِبَّ بيان حالِهم باعتبار أعمالِهم السيئةِ في أنفسها مع كونها حسنةً في حسبانهم.

.تفسير الآيات (104- 105):

{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)}
{الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ} في إقامة تلك الأعمالِ أي ضاع وبطَل بالكلية {وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم} متعلقٌ بالسعي لا بالضلال لأن بُطلاَن سعيِهم غيرُ مختصَ بالدنيا، قيل: المرادُ بهم أهلُ الكتابين قاله ابن عباس وسعدُ بنُ أبي وقاص ومجاهدٌ رضي الله عنهم، ويدخُل في الأعمال حينئذ ما عمِلوه من الأحكام المنسوخةِ المتعلقةِ بالعبادات، وقيل: الرهابنةُ الذين يحبِسون أنفسَهم في الصوامع ويحمِلونها على الرياضات الشاقّة، ولعله ما يُعمهم وغيرَهم من الكفرة، ومحلُّ الموصول الرفعُ على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ لأنه جوابٌ للسؤال، كأنه قيل: من هم؟ فقيل: الذين الخ، وجعلُه مجروراً على أنه نعتٌ للأخسرين أو بدلٌ منه أو منصوباً على الذم على أن الجوابَ ما سيأتي من قوله تعالى: {أولئك} الآية يأباه أن صدرَه ليس مُنْبئاً عن خُسران الأعمالِ وضلالِ السعي كما يستدعيه مقامُ الجواب، والتفريعُ الأولُ وإن دل على حبوطها لكنه ساكتٌ عن إنباء ما هو العُمدةُ في تحقيق معنى الخسرانِ من الوثوق بترتب الربحِ واعتقاد النفعِ فيما صنعوا على أن التفريعَ الثانيَ يقطع ذلك الاحتمالَ رأساً إذ لا مجال لإدراجه تحت الأمرِ بقضية نونِ العظمة.
{وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} الإحسانُ الإتيانُ بالأعمال على الوجه اللائقِ وهو حسنُها الوصفيُّ المستلزِمُ لحسنها الذاتي، أي يحسبَون أنهم يعملون ذلك على الوجه اللائقِ وذلك لإعجابهم بأعمالهم التي سعَوا في إقامتها وكابدوا في تحصيلها، والجملةُ حالٌ من فاعل ضل أي بطل سعيُهم المذكورُ والحالُ أنهم يحسَبون أنهم يُحسنون في ذلك وينتفعون بآثاره، أو من المضاف إليه لكونه في محل الرفعِ نحوُ قوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} أي بطل سعيُهم والحالُ أنهم الخ، والفرقُ بينهما أن المقارِنَ لحال حُسبانِهم المذكورِ في الأول ضلالُ سعيهم وفي الثاني نفسُ سعيهم والأولُ أدخلُ في بيان خطئهم.
{أولئك} كلامٌ مستأنفٌ من جنابه تعالى مَسوقٌ لتكميل تعريفِ الأخسرين وتبيينِ سبب خسرانِهم وضلالِ سعيهم وتعيينِهم بحيث ينطبق التعريفُ على المخاطبين غيرُ داخلٍ تحت الأمر، أي أولئك المنعوتون بما ذكر من ضلال السعي مع الحسبان المزبورِ {الذين كَفَرُواْ بئايات رَبّهِمْ} بدلائله الداعيةِ إلى التوحيد عقلاً ونقلاً، والتعرضُ لعنوان الربوبيةِ لزيادة تقبيحِ حالِهم في الكفر المذكور {وَلِقَائِهِ} بالبعث وما يتبعه من أمور الآخرة على ما هي عليه {فَحَبِطَتْ} لذلك {أعمالهم} المعهودةُ حبوطاً كلياً {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ} أي لأولئك الموصوفين بما مر من حبوط الأعمالِ، وقرئ بالياء {يَوْمَ القيامة وَزْناً} أي فنزدريهم ولا نجعل لهم مقداراً واعتباراً لأن مدارَه الأعمالُ الصالحة وقد حبِطت بالمرة، وحيث كان هذا الازدراءُ من عواقب حبوطِ الأعمال عُطف عليه بطريق التفريعِ، وأما ما هو من أجزية الكفرِ فسيجيء بعد ذلك، أو لا نضع لأجل وزنِ أعمالِهم ميزاناً لأنه إنما يوضع لأهل الحسناتِ والسيئاتِ من الموحّدين ليتمَّمَ به مقاديرُ الطاعات والمعاصي ليترتب عليه التكفير أو عدمُه لأن ذلك في الموحدين بطريق الكمية، وأما الكفرُ فإحباطه للحسنات بحسب الكيفيةِ دون الكمية فلا يوضع لهم الميزانُ قطعاً.

.تفسير الآيات (106- 107):

{ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)}
{ذلك} بيانٌ لمآل كفرهم وسائرِ معاصيهم إثرَ بيان مآلِ أعمالِهم المحبَطة بذلك أي الأمرُ ذلك، وقوله عز وجل: {جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ} جملةٌ مبيِّنةٌ له أو ذلك مبتدأٌ والجملةُ خبرُه والعائدُ محذوفٌ، أي جزاؤُهم به أو جزاؤهم بدلَه وجهنمُ خبرُه أو جزاؤهم خبرُه وجهنمُ عطفُ بيانٍ للخبر {بِمَا كَفَرُواْ} تصريحٌ بأن ما ذكر جزاءٌ لكفرهم المتضمن لسائر القبائحِ التي أنبأ عنها قوله تعالى: {واتخذوا ءاياتى وَرُسُلِى هُزُواً} أي مهزوًّا بهما فإنهم لم يقتنعوا بمجرد الكفرِ بالآيات والرسل، بل ارتكبوا مثلَ تلك العظيمة أيضاً.
{إِنَّ الذين ءامَنُواْ} بيانٌ بطريق الوعدِ لمآل الذين اتصفوا بأضداد ما اتصف به الكفرةُ إثرَ بيانِ ما لهم بطريق الوعيد، أي آمنوا بآيات ربِّهم ولقائه {وَعَمِلُواْ الصالحات} من الأعمال {كَانَتْ لَهُمْ} فيما سبق من حكم الله تعالى ووعدِه، وفيه إيماءٌ إلى أن أثرَ الرحمةِ يصل إليهم بمقتضى الرأفةِ الأزليةِ بخلاف ما مر من جعل جهنم للكافرين نزلاً، فإنه بموجب ما حدث من سوء اختيارِهم {جنات الفردوس} عن مجاهد: أن الفردوسَ هو البستانُ بالرومية، وقال عكرمة: هو الجنةُ بالحبشية، وقال الضحاك: هو الجنة الملتفّةُ الأشجار، وقيل: هي الجنةُ التي تُنبتُ ضروباً من النبات، وقيل: هي الجنةُ من الكرم خاصة، وقيل: ما كان غالبة كَرْماً، وقال المبرد: هو فيما سمعتُ من العرب للشجر الملتفِّ والأغلب عليه أن يكون من العنب، وعن كعب: أنه ليس في الجنان أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في الجنة مائةُ درجةٍ ما بين كلِّ درجةٍ مسيرةُ مائة عام، والفردوسُ أعلاها وفيها الأنهارُ الأربعةُ فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفِردوسَ فإن فوقه عرشَ الرحمن ومنه تفجّر أنهار الجنة» {نُزُلاً} خبرُ كانت والجار والمجرور متعلقٌ بمحذوف على أنه حالٌ من نزلاً، أو على أنه بيانٌ أو حالٌ من جنات الفردوس والخبرُ هو الجارُّ والمجرورُ فإن جعل النزول بمعنى ما يُهيَّأ للنازل فالمعنى كانت لهم ثمارُ جناتِ الفردوس نزلاً، أو جُعلت نفسُ الجنّات نزلاً مبالغةً في الإكرام، وفيه إيذانٌ بأنها عند ما أعد الله لهم على ما جرى على لسان النبوة من قوله: «أَعْدَدْتُ لعباديَ الصالحين ما لا عينٌ رأتُ، ولا أُذنٌ سمِعتْ ولا خطرَ على قلب بشر» بمنزلة النزلِ بالنسبة إلى الضيافة، وإن جُعل بمعنى المنْزِل فالمعنى ظاهر.

.تفسير الآيات (108- 110):

{خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)}
{خالدين فِيهَا} نصب على الحالية {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} مصدرٌ كالعِوج والصِّغر، أي لا يطلبون تحوّلاً عنها إذ لا يُتصوّر أن يكون شيءٌ أعزَّ عندهم وأرفعَ منها حتى تُنازِعَهم إليه أنفسُهم وتطمَح نحوه أبصارُهم، ويجوز أن يراد نفيُ التحول وتأكيدُ الخلود، والجملة حالٌ من صاحب خالدين أو من ضميره فيه فيكون حالاً متداخِلةً.
{قُل لَّوْ كَانَ البحر} أي جنسُ البحر {مِدَاداً} وهو ما تُمِدُّ به الدواةُ من الحبر {لكلمات رَبّى} لتحرير كلماتِ علمِه وحكمتِه التي من جملتها ما ذكر من الآيات الداعيةِ إلى التوحيد المحذّرة من الإشراك {لَنَفِدَ البحر} مع كثرته ولم يبقَ منه شيء لتناهيه {قَبْلَ أَن تَنفَدَ} وقرئ بالياء والمعنى من غير أن تنفد {رَبّى لَنَفِدَ} لعدم نتاهيها فلا دِلالةَ للكلام على نفادها بعد نفادِ البحرِ، وفي إضافة الكلماتِ إلى اسم الربِّ المضافِ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم في الموضعين من تفخيم المضافِ وتشريفِ المضاف إليه ما لا يخفى، وإظهارُ البحر والكلماتِ في موضع الإضمارِ لزيادة التقرير {وَلَوْ جِئْنَا} كلامٌ من جهته تعالى غيرُ داخل في الكلام الملقّن جيء به لتحقيق مضمونِه وتصديقِ مدلولِه مع زيادة مبالغةٍ وتأكيد، والواوُ لعطف الجملة على نظيرتها المستأنفةِ المقابلةِ لها المحذوفة لدِلالة المذكورةِ عليها دَلالةً واضحة، أي لنفد البحرُ من غير نفادِ كلماته تعالى لو لم نجِىءْ بمثله مدداً ولو جئنا، بقدرتنا الباهرة {بِمِثْلِهِ مَدَداً} عوناً وزيادةً لأن مجموعَ المتناهيَيْن متناهٍ، بل مجموعُ ما يدخل تحت الوجود من الأجسام لا يكون إلا متناهياً لقيام الأدلةِ القاطعة على تناهي الأبعادِ، وقرئ: {مُدَداً} جمع مُدّة وهي ما يستمدّه الكاتبُ، وقرئ: {مِداداً}.
{قُلْ} لهم بعد ما بينْتَ لهم شأن كلماتِه تعالى: {إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} لا أدّعي الإحاطةَ بكلماته التامة {يوحى إِلَىَّ} من تلك الكلماتِ {أَنَّمَا إلهكم إله واحد} لا شريكَ له في الخلق ولا في سائر أحكامِ الألوهيةِ، وإنما تميزْتُ عنكم بذلك {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ} الرجاءُ توقعُ وصولِ الخير في المستقبل، والمرادُ بلقائه تعالى كرامتُه، وإدخالُ الماضي على المستقبل للدِلالة على أن اللائقَ بحال المؤمن الاستمرارُ والاستدامةُ على رجاء اللقاءِ، أي فمن استمر على رجاء كرامتِه تعالى {فَلْيَعْمَلِ} لتحصيل تلك الطِّلْبةِ العزيزة {عَمَلاً صالحا} في نفسه لائقاً بذلك المرجوِّ كما فعله الذين آمنوا وعملوا الصالحات {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا} إشراكاً جلياً كما فعله الذين كفروا بآيات ربِّهم ولقائه، ولا إشراكاً كما يفعله أهلُ الرياء ومَنْ يطلبُ به أجراً، وإيثارُ وضعِ المُظهَرِ موضعَ المُضمر في الموضعين مع التعرض لعنوان الربوبيةِ لزيادة التقريرِ، وللإشعار بعلية العنوانِ للأمر والنهي ووجوبِ الامتثالِ فعلاً وتركاً.
روي أن جُندُبَ بنَ زهير رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعمل العملَ لله تعالى فإذا اطّلع عليه سرّني، فقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله لا يقبل ما شوُرك فيه» فنزلت تصديقاً له. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال له: «لك أجران أجرُ السرِّ وأجرُ العلانية» وذلك إذا قصد أن يُقتدى به. وعنه عليه السلام: «اتقوا الشركَ الأصغرَ» قيل: وما الشركُ الأصغرُ؟ قال: «الرياء».
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورةَ الكهفِ من آخرها كانت له نوراً من قَرْنه إلى قدمه، ومن قرأها كلَّها كانت له نوراً من الأرض إلى السماء». وعنه صلى الله عليه وسلم: «من قرأ عند مضجعه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ} الخ، كان له من مضجعه نوراً يتلألأ إلى مكةَ، حشْوُ ذلك النورِ ملائكةٌ يصلّون عليه حتى يقوم، وإن كان مضجعُه بمكةَ كان له نوراً يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمورِ، حشوُ ذلك النورِ ملائكةٌ يصلُون عليه حتى يستيقظ» الحمد لله سبحانه على نعمه العِظام.

.سورة مريم:

.تفسير الآيات (1- 4):

{كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)}
{كهيعص} بإمالة الهاءِ والياء وإظهار الدال، وقرئ بفتح الهاء وإمالةِ الياء وبتفخيمهما وبإخفاء النونِ قبل الصادِ لتقاربهما، وقد سلف أن ما لا تكون من هذه الفواتح مفردةً ولا موازِنةً لمفرد فطريقُ التلفظ بها الحكايةُ فقط ساكنةُ الأعجاز على الوقف، سواءٌ جعلت أسماءً للسور أو مسرودةً على نمط التعديد، وإن لزمها التقاءُ الساكنين لكون مغتفراً في باب الوقف قطعاً فحق هذه الفاتحة الكريمةِ أن يوقف عليها جرياً على الأصل، وقرئ بإدغام الدال فيما بعدها لتقاربهما في المخرج، فإن جُعلت اسماً للسورة على ما عليه إطباقُ الأكثر فمحلُّه الرفعُ، إما على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ والتقديرُ هذا كهيعص أي مسمًّى به وإنما صحت الإشارةُ إليه مع عدم جرَيانِ ذكرِه لأنه باعتبار كونِه على جناح الذكر صار في حكم الحاضِر المشاهَدِ، كما يقال: هذا ما اشترى فلان، أو على أنه مبتدأٌ خبرُه: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ} أي المسمّى به ذكرُ رحمة الخ، فإن ذكرَها لمّا كان مطلَعَ السورةِ الكريمة ومعظمَ ما انطوت هي عليه جُعلت كأنها نفسُ ذكرها، والأولُ هو الأولى لأن ما يجعل عنواناً للموضوع حقُّه أن يكون معلومَ الانتساب إليه عند المخاطبِ، وإذ لا علمَ بالتسمية من قبل فحقُّها الإخبارُ بها كما في الوجه الأول، وإن جُعلت مسرودةً على نمط التعديدِ حسبما جنَح إليه أهلُ التحقيقِ فذكرُ إلخ خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ هو ما ينبىء عنه تعديدُ الحروف كأنه قيل: المؤلَّفُ من جنس هذه الحروف المبسوطةِ مراداً به السورةُ ذكرُ الرحمة الخ، وقيل: هو مبتدأٌ قد حُذف خبرُه أي فيما يتلى عليك ذكرُها، وقرئ: {ذكَّر رحمةَ ربك} على صيغة الماضي من التذكير أي هذا المتلوُّ ذكّرها، وقرئ: {اذكُرْ} على صيغة الأمر، والتعرضُ لوصف الربوبية المنْبئةِ عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام للإيذان بأن تنزيلَ السورة عليه عليه الصلاة والسلام تكميلٌ له عليه السلام، وقوله تعالى: {عَبْدِهِ} مفعولٌ لرحمة ربك على أنها مفعولٌ لما أضيف إليها، وقيل: للذكر على أنه مصدرٌ أضيف إلى فاعله على الاتساع، ومعنى ذكرِ الرحمةِ بلوغُها وإصابتُها، كما يقال: ذكرني معروفُ فلان أي بلغني، وقوله عز وعلا: {زَكَرِيَّا} بدل منه أو عطف بيان له {إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً} ظرفٌ لرحمة ربك، وقيل: لذِكرُ على أنه مضافٌ إلى فاعله اتساعاً لا على الوجه الأولِ لفساد المعنى، وقيل: هو بدلُ اشتمالٍ من زكريا كما في قوله: {واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ إِذِ انتبذت} ولقد راعى عليه الصلاة والسلام حسنَ الأدب في إخفاء دعائِه، فإنه مع كونه بالنسبة إليه عز وجل كالجهر أدخلُ في الإخلاص وأبعدُ من الرياء وأقربُ إلى الخلاص عن لائمة الناس على طلب الولدِ لتوقّفه مبادئ لا يليق به تعاطيها في أوان الكِبَر والشيخوخة وعن غائلة مواليه الذين كان يخافهم، وقيل: كان ذلك من عليه السلام لضَعف الهرم، قالوا: كان سنُّه حينئذ ستين، وقيل: خمساً وستين، وقيل: سبعين، وقيل: خمساً وسبعين، وقيل: أكثرَ منها كما مر في سورة آل عِمرانَ.
{قَالَ} جملةٌ مفسِّرةٌ لنادى لا محلَّ لها من الإعراب {رَبّ إِنّى وَهَنَ العظم مِنّى} إسنادُ الوهن إلى العظم لِما أنه عمادُ البدن ودِعامُ الجسد فإذا أصابه الضَّعفُ والرخاوة أصاب كلَّه، أو لأنه أشدُّ أجزائه صلابةً وقِواماً وأقلُّها تأثراً من العلل فإذا وهَن كان ما وراءه أوهنَ، وإفرادُه للقصد إلى الجنس المنْبىءِ عن شمول الوهْنِ لكل فردٍ من أفراده، ومنّي متعلقٌ بمحذوف هو حالٌ من العظم، وقرئ: {وهِن} بكسر الهاء وبضمها أيضاً، وتأكيدُ الجملة لإبراز كمال الاعتناءِ بتحقيق مضمونها {واشتعل الرأس شَيْباً} شبّه عليه الصلاة والسلام الشيبَ في البياض والإنارة بشُواظ النار، وانتشارَه في الشعر وفُشوَّه فيه وأخذَه منه كلَّ مأخذ باشتعالها، ثم أخرجه مُخرجَ الاستعارةِ ثم أَسند الاشتعالَ إلى محل الشعرِ ومنبِتِه، وأخرجه مُخرج التمييز وأطلق الرأسَ اكتفاءً بما قيّد به العظمَ، وفيه من فنون البلاغة وكمالِ الجزالةِ ما لا يخفى، حيث كان الأصلُ اشتعل شيبُ رأسي فأسند الاشتعالَ إلى الرأس كما ذُكر لإفادة شمولِه لكلها، فإن وِزانَه بالنسبة إلى الأصل وزانُ اشتعل بيتُه ناراً بالنسبة إلى اشتعل النارُ في بيته، ولزيادة تقريرِه بالإجمال أولاً والتفصيلِ ثانياً ولمزيد تفخيمِه بالتنكير، وقرئ بإدغام السينِ في الشين {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً} أي ولم أكن بدعائي إياك خائباً في وقت من أوقات هذا العمُر الطويلِ، بل كلما دعوتُك استجبتَ لي، والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها أو حالٌ من ضمير المتكلم إذِ المعنى واشتعل الرأسُ شيباً، وهذا توسلٌ منه عليه السلام بما سلف منه من الاستجابة عند كلِّ دعوة إثرَ تمهيدِ ما يستدعي الرحمةَ ويستجلب الرأفةَ من كِبَر السّنِّ وضَعفِ الحال، فإنه تعالى بعد ما عوّد عبدَه بالإجابة دهراً طويلاً لا يكاد يُخيّبه أبداً لاسيما عند اضطرارِه وشدة افتقارِه، والتعرضُ في الموضوعين لوصف الربوبيةِ المنْبئة عن إضافة ما فيه صلاحُ المربوبِ، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لاسيما توسيطُه بين كان وخبرها لتحريك سلسلةِ الإجابةِ بالمبالغة في التضرّع، ولذلك قيل: إذا أراد العبدُ أن يُستجابَ له دعاؤُه فليدعُ الله تعالى بما يناسبه من أسمائه وصفاتِه.